الجزيرة- حيادية تفضح الأنظمة وقلق الدكتاتوريات وتضيء الحقائق

لقد نالت قناة الجزيرة في مناسبات جمة أوسمة تقدير فريدة، تجسدت في قرارات حظر من عواصم متباينة، كانت ترمي إلى منعها من ممارسة نشاطها الإعلامي داخل حدود تلك الدول، إلا أن القناة، وبروح لا تعرف المهادنة، لم تنثنِ يومًا عن أداء رسالتها السامية، بل على العكس، مضت قُدمًا نحو الأمام بخطى ثابتة، وبوجه خاص في تلك الأصقاع التي لا تزال ترزح تحت وطأة الجهل والتخلف، غير مدركة أن العالم قد شهد تطورات تكنولوجية وإعلامية هائلة، جعلت من هذه الإجراءات البالية ضربًا من العبث، بل إنها تعكس، بكل وضوح، هشاشة تلك الأنظمة وضعفها المتزايد.
وما يرسخ قناعتنا بأن الجزيرة كانت دومًا على صواب، في كل المعارك التي خاضتها من هذا القبيل، هو حقيقة أن الأمور دائمًا ما تنتهي بصدور قرارات تصحيحية، تعيد المياه إلى مجاريها، في صورة أشبه بالاعتذار الضمني، وهو الأمر الذي جعل العاملين في الجزيرة يتعاملون مع هذه الترهات بروح رياضية عالية، إيمانًا منهم بأن الحق لابد منتصر، وأن المسألة لا تعدو كونها مسألة وقت، قبل أن يعترف هؤلاء وهؤلاء بأنهم كانوا على خطأ، فالقناة، منذ انطلاقتها المباركة قبل ثمانية وعشرين عامًا، دأبت على العمل بحيادية لا يشوبها شائبة، وبروح مهنية قلّ نظيرها، وهذان العاملان هما سر نجاحها الباهر واستمرارها وتألقها، بل وتفوقها في نسب المشاهدة على الصعيدين الإقليمي والدولي.
إلى النور
يجدر بنا أن نعترف بصدق بأنه حتى بزوغ فجر قنوات الجزيرة، لم يكن هناك، بين مختلف القنوات التلفزيونية الفضائية وغير الفضائية في المنطقة، ما يمكن أن نطلق عليه قنوات إخبارية بالمعنى الدقيق للكلمة، بل لم يكن هناك مراسلون ميدانيون متواجدون في مناطق الأحداث الملتهبة، إذ كانت القنوات التلفزيونية والصحف العربية قاطبة تعتمد بشكل كامل على وكالات الأنباء العالمية، التي لم تكن تتجاوز عدد أصابع اليد في ذلك الزمان، مثل رويترز والفرنسية والألمانية وأسوشيتدبرس، وذلك قبل أن تبدأ قناة (سي. إن. إن) الأمريكية بثها في عام 1990، بالتزامن مع حرب تحرير الكويت، لتحقق شهرة واسعة النطاق في تلك الفترة.
غير أن انطلاقة قناة الجزيرة في عام 1996 مثلت فتحًا مبينًا للإعلام العربي والعالمي على حد سواء، فبعدها توالت الانطلاقات المتلاحقة لقنوات أخرى، في محاولة لمنافستها وسبر أغوارها، وتزايد الاعتماد على مراسلين خاصين بكل قناة على حدة، إلا أن الجزيرة ظلت حجر الزاوية للإعلام العربي على وجه الخصوص، في الوقت الذي تصدرت فيه المنافسة مع كبرى القنوات الأجنبية، حتى فيما يتعلق بالشؤون الداخلية لتلك الدول، مما جعلها أيقونة إعلامية لا يمكن تجاوزها عند دراسة الإعلام في مختلف الكليات والمعاهد المتخصصة، فالنقل عن الجزيرة أصبح أمرًا بديهيًا وموثوقًا به في جميع عواصم العالم دون استثناء.
قلق الأنظمة
إنه لمن الطبيعي، إذن، أن تمثل الجزيرة مصدر إزعاج وقلق دائم للأنظمة الدكتاتورية على وجه الخصوص، وأن تثير حفيظة الأنظمة والكيانات التي ترتكب جرائم حرب هنا أو مجازر بشعة بحق المدنيين هناك، فتغطية الجزيرة، بما تنطوي عليه من مصداقية وشفافية، فضلًا عن انفراداتها الحصرية، باتت بمثابة وثائق دامغة، تُقدم إلى المحاكم الدولية كأدلة إثبات قاطعة، وهو ما دفع الكيان الصهيوني إلى استهداف مراسلي الجزيرة على وجه التحديد، منذ اللحظة الأولى لعدوانه الغاشم على قطاع غزة، ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل امتد ليشمل استهداف أسرهم وعائلاتهم ومنازلهم، في إطار حملة ترويع وترهيب لم يشهد التاريخ لها مثيلًا في أي من الحروب أو في أي بقعة من بقاع العالم.
لابد لنا من الاعتراف بأن قنوات الجزيرة -الإخبارية ومباشر والإنجليزية- قد كانت صوتًا مدويًا للمستضعفين والمظلومين طوال حرب الإبادة المستمرة رحاها في قطاع غزة على مدى الأشهر الماضية، وقد حظيت في ذلك باستحسان جماهيري واسع النطاق، واعتراف دولي كبير بهذا التفوق والتميز، ففي الوقت نفسه، كشفت عن الوجه القبيح للإعلام الغربي، الذي دأب على طمس الحقائق وتزييفها، بناءً على تعليمات سياسية رسمية، تم تسريبها الواحدة تلو الأخرى، مما يؤكد أننا طوال الوقت، أو طوال عقود مديدة، كنا نعيش في وهم كبير بشأن نزاهة الإعلام الغربي وحرية الإعلام الأمريكي، وما شابه ذلك من أكاذيب.
ربما كانت نسب المشاهدة القياسية التي تحققها قنوات الجزيرة على مدار الساعة، هي خير دليل وشاهد على مصداقيتها في مواجهة قرارات الحظر والتضييق، وربما كان موقع عواصم المنع والحجب في تصنيف الحريات وحقوق الإنسان هو خير برهان على نزاهة وحيادية مؤسسة الجزيرة بشكل عام، إلا أن الأمر حينما يتعلق بتغطية الجزيرة لحرب إبادة، ومقابر جماعية، واستهداف مؤسسات دولية تعمل في المجال الإنساني وتصفية العاملين بها، فإننا أمام أسمى وأجل دور إعلامي على الإطلاق، ينقل للعالم حقيقة مجموعة من الفاشيين والسفاحين، الذين خدعوا المجتمع الدولي على مدى سبعة عقود، وها هو العالم ينتفض الآن في وجههم.
ليس وليد اليوم
إنه لمن المؤكد والجليّ، إذن، أن قرار الكيان الصهيوني، بإجماع كامل وزراء حكومته، بمنع قناة الجزيرة من العمل، هو شهادة تقدير جديدة تضاف إلى سجل القناة الحافل بالإنجازات، وإن كنت أرى شخصيًا أن الجزيرة ليست بحاجة إلى شهادات من هذا الكيان، سواء كانت إيجابية أو سلبية، فالعالم بأسره، من أقصاه إلى أدناه، بات يحتقر هذا الكيان أشد الاحتقار، ولعل الجزيرة كانت العامل الأهم في هذا التحول، وهو ما جعلهم غير قادرين على تحمل هذا الدور الإعلامي الأخلاقي أولًا، والمهني ثانيًا.
ولكن، يجب علينا أن نضع في الحسبان أن قرار هذا الكيان بعرقلة عمل الجزيرة ليس وليد اللحظة أو وليد الأمس القريب، فاغتيال المغفور لها شيرين أبو عاقلة، في مثل هذا الشهر قبل عامين، كان بمثابة مقدمة لقرار الإعاقة والإغلاق، قبل أن تتوالى قائمة الاغتيالات والتضييقات، التي كان أبرزها استهداف عائلة وائل الدحدوح، واستمرت تلك الممارسات الشنيعة الواحدة تلو الأخرى، إلى أن توجت بهذا القرار الأرعن، الذي يضاف إلى قائمة القرارات الغبية لتلك الحكومة الأكثر تطرفًا وإرهابًا في تاريخ ذلك الكيان الدموي، الذي يتلذذ بقتل الأطفال والنساء على مدار الساعة.
إنه نداء صادق إلى جميع العاملين في مؤسسة الجزيرة، قنوات ومواقع، بأن تكون مثل هذه القرارات والممارسات حافزًا لكم، تزيد من إصراركم وعزيمتكم، مع الأخذ في الاعتبار أمرين في غاية الأهمية، أولهما: ذلك الخنوع الإعلامي، العربي والغربي على حد سواء، تجاه القضية الفلسطينية، القضية الأكثر عدلًا في التاريخ، باعتراف القرارات الدولية والأممية، وهو ما يعني أن تراجع الجزيرة سوف يمثل ظلمًا فادحًا لهذه القضية من جميع النواحي، والأمر الثاني: هو أن الجزيرة قادت وسائل الإعلام العربية على وجه الخصوص إلى محاولات دؤوبة ومستمرة نحو الإصلاح والتحسين والارتقاء بالمهنية، وهي محاولات نأمل أن تستمر وتتواصل، حتى وإن طال أمد الإصلاح، بما يؤكد أن دور الجزيرة أسمى وأكبر بكثير من مجرد قناة تلفزيونية.